فصل: تفسير الآيات (20- 34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)}
قال كثير من المفسرين: {المرسلات}، الرسل إلى الناس من الأنبياء كأنه قال: والجماعات المرسلات، وقال أبو صالح ومقاتل وابن مسعود: {المرسلات} الملائكة المرسلة بالوحي، وبالتعاقب على العباد طرفي النهار، وقال ابن مسعود أيضاً وابن عباس ومجاهد وقتادة: {المرسلات}، الرياح، وقال الحسن بن أبي الحسن: {المرسلات} السحاب و{عرفاً} معناه على القول الأول {عرفاً} من الله وإفضالاً على عباده ببعثه الرسل.
ومنه قول الشاعر: الحطيئة: البسيط:
من يفعل الخير لا يعدمْ جوازيَهُ ** لا يذهب العرف بين الله والناس

ويحتمل أني ريد بقوله: {عرفاً} أي متتابعة على التشبيه بتتابع عرف الفرس وأعراف الجبال ونحو ذلك، والعرب تقول: الناس إلى فلان عرف واحد إذا توجهوا إليه، ويحتمل أن يريد بالعرف أي بالحق، والأمر بالمعروف، وهذه الأقوال في عرف تتجه في قول من قال في {المرسلات} إنها الملائكة، ومن قال إن {المرسلات} الرياح اتجه في العرف القول الأول على تخصيص الرياح التي هي نعمة وبها الأرزاق والنجاة في البحر وغير ذلك مما لا فقه فيه، ويكون الصنف الآخر من الرياح في قوله: {فالعاصفات عصفاً} ويحتمل أن يكون بمعنى {والمرسلات} الرياح التي يعرفها الناس ويعهدونها، ثم عقب بذكر الصنف المستنكر الضار وهي {العاصفات}، ويحتمل أن يريد بالعرف مع الرياح التتابع كعرف الفرس ونحوه، وتقول العرب هب عرف من ريح، والقول في العرف مع أن {المرسلات} هي الرياح يطرد على أن {المرسلات} السحاب، وقرأ عيسى {عُرفاً} بضم الراء، و{العاصفات} من الريح الشديدة العاصفة للشجر وغيره، واختلف الناس في قولهم {والناشرات} فقال مقاتل والسدي هي الملائكة تنشر صحف العباد بالأعمال، وقال ابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة هي الرياح تنشر رحمة الله ومطره، وقال بعض المتأولين: {الناشرات} الرمم الناشرات في بعث يوم القيامة يقال نشرت الميت، ومنه قول الأعشى: السريع:
يا عجباً للميت الناشر

وقال آخرون: {الناشرات} التي يجيء بالأمطار تشبه بالميت ينشر، وقال أبو صالح: {الناشرات} الأمطار التي تحيي الأرض، وقال بعض المتأولين: {الناشرات} طوائف الملائكة التي تباشر إخراج الموتى من قبورهم للبعث فكأنهم يحيونهم، و{الفارقات} قال ابن عباس وابن مسعود وأبو صالح ومجاهد والضحاك: هي الملائكة تفرق بين الحق والباطل والحلال والحرام، وقال قتادة والحسن وابن كيسان: {الفارقات}، آيات القرآن، وأما {الملقيات ذكراً} فهي في قول الجمهور الملائكة. قال مقاتل جبريل وقال آخرون هي الرسل، وقرأ جمهور الناس: {فالملْقيات} بسكون اللام أي تلقيه من عند الله أو بأمره إلى الرسل.
وقرأ ابن عباس فيما ذكر المهدوي، {فالملَقَّيات} بفتح اللام والقاف وشدها، أي تلقيه من قبل الله تعالى، وقرأ ابن عباس أيضاً {فالملَقَّيات} بفتح اللام وشد القاف وكسرها، أي تلقيه هي الرسل، و(الذكر) الكتب المنزلة والشرائع ومضمناتها.
واختلف القراء في قوله تعالى: {عذراً أو نذراً}، فقأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وأبو جعفر وشيبة بسكون الذال في {عذْر} وضمها في {نذُر}، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم وإبراهيم التيمي بسكون الذال فيهما، وقرأ طلحة وعيسى والحسن بخلاف، وزيد بن ثابت وأبو جعفر وأبو حيوة والأعمش عن أبي بكر عن عاصم بضمها فيهما فإسكان الذال على أنهما مصدران يقال عذْر وعذير ونذْير كنكر ونكير، وضم الذال يصح معه المصدر، ويصح أن يكون جمعاً لنذير وعاذر للذين هما اسم فاعل، والمعنى أن الذكر يلقي بإعذار وإنذار أو يلقيه معذورون ومنذرون، وأما النصب في قوله: {عذراً أو نذراً} فيصح إذا كانا مصدرين أن يكون لك على البدل من الذكر، ويصح أن يكون على المفعول للذكر كأنه قال: {فالملقيات} أن يذكر {عذراً} ويصح أن يكون {عذراً} مفعولاً لأجله أي يلقي الذكر من أجل الإعذار، وأما إذا كان {عذراً أو نذراً} جمعاً فالنصب على الحال. وقرأ إبراهيم التيمي {عذراً أو نذراً} بواو بدل {أو} وقوله تعالى: {إن ما توعدون لواقع} هو الذي وقع عليه القسم والإشارة إلى البعث، و(طمس النجوم): إزالة ضوئها واستوائها مع سائر جرم السماء، و(فرج السماء): هو بانفطارها حتى يحدث فيها فروج، و(نسف الجبال): هو بعد التسيير وقيل كونها هباء وهو تفريقها بالريح. وقرأ جمهور القراء: {أقتت} بالهمزة وشد القاف، وقرأ بتخفيف القاف مع الهمزة عيسى وخالد، وقرأ أبو عمرو وحده {وقتت} بالواو، وأبو الأشهب وعيسى وعمرو بن عبيد، قال عيسى هي لغة سفلى مضر، وقرأ أو جعفر بواو واحدة خفيفة القاف وهي قراءة ابن مسعود والحسن، وقرأ الحسن بن أبي الحسن {ووقت} بواوين على وزن فوعلت، والمعنى جعل لها وقت منتظر فجاء وحان. والواو في هذا كله الأصل والهمزة بدل. وقوله تعالى: {لأي يوم أجلت} تعجيب على عظم ذلك اليوم وهوله، ثم فسر تعالى ذلك الذي عجب منه بقوله: {ليوم الفصل} يعني بين الخلق في منازعتهم وحسابهم ومنازلهم من جنة أو نار، وفي هذه الآية انتزع القضاة الآجال في الأحكام ليقع فصل القضاء عند تمامها ثم عظم تعالى يوم الفصل بقوله: {وما أدراك ما يوم الفصل} على نحو قوله تعالى: {وما أدراك ما الحاقة} [الحاقة: 2] وغير ذلك، ثم أثبت الويل {للمكذبين} في ذلك اليوم، والمعنى {للمكذبين} به في الدنيا وبسائر فصول الشرع، و(الويل): هو الحرب والحزن على نوائب تحدث بالمرء، ويروى عن النعمان بن بشير وعمار بن ياسر أن وادياً في جهنم اسمه (ويل).
{أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17)}
قرأ جمهور القراء {ثم نتبعُهم} بضم العين على استئناف الخبر، وقرأ أبو عمرو فيما روي عنه {ثم نتبعْهم} بجزم العين عطفاً على {نهلك} وهي قراءة الأعرج وبحسب هاتين القراءتين يجيء التأويل في {الأولين}، فمن قرأ الأولى جعل {الأولين} الأمم التي قدمت قريشاً بأجمعها، ثم أخبر أنه يتبع {الآخرين} من قريش وغيرهم سنن أولئك إذا كفروا وسلكوا سبيلهم. ومن قرأ الثانية جعل {الأولين} قوم نوح وإبراهيم ومن كان معهم، و{الآخرين} قوم فرعون وكل من تأخر وقرب من مدة محمد صلى الله عليه وسلم. وفي حرف عبد الله {وسنتبعهم} ثم قال: {كذلك نفعل بالمجرمين} أي في المستقبل فتدخل هنا قريش وغيرها من الكفار، وأما تكرار {ويل يؤمئذ للمكذبين} في هذه السورة فقيل إن ذلك لمعنى التأكيد فقط، وقيل بل في كل آية منها ما يقتضي التصديق، فجاء الوعد على التكذيب بذلك الذي في الآية. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{والمرسلات عُرْفاً فالعاصفات عَصْفاً والناشرات نَشْراً فالفارقات فَرْقاً فالملقيات ذِكْراً}
إقسامٌ من الله عز وجل بطوائفَ من الملائكةِ أرسلهنَّ بأوامرِه فعصَفنَ في مُضيّهنَّ عصفَ الرياحِ مسارعةً في الامتثالِ بالأمرِ وبطوائفَ أُخرى نشرْن أجنحتَهنَّ في الجوِّ عندَ انحطاطِهنَّ بالوَحي أو نشرن الشرائعَ في الأقطارِ أو نشرن النفوسَ المَوْتى بالكُفرِ والجهلِ بَما أوحين ففرقن بينَ الحقِّ والباطل فألقينَ ذِكْراً إلى الأنبياءِ {عُذْراً} للمحقِّينَ {أَوْ نُذْراً} للمبطلينَ. ولعلَّ تقديمَ نشرِ الشرائعِ ونشرِ النفوسِ والفَرقِ على الإلتقاءِ للإيذان بكونها غايةً للإلقاء حقيقةً بالاعتناء بها أو للإشعارِ بأنَّ كُلاً من الأوصافِ المذكورةِ مُستقلٌّ بالدلالةِ على استحقاق الطوائفِ الموصوفةِ بها للتفخيم والإجلال بالإقسام بهنَّ ولو جيء بها على ترتيب الوقوعِ لربَّما فُهمَ أنَّ مجموعَ الإلقاءِ والنشرِ والفرقِ هو الموجبُ لما ذكِرَ من الاستحقاقِ أو إقسامٌ برياحِ عذابٍ أرسلهنَّ فعصفنَ وبرياحِ رحمةٍ نشرنَ السحابَ في الجوِّ ففرقنَ بينَهُ كقوله تعالى: {وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً} أو بسحائبَ نشرنَ المواتَ ففرقنَ كلَّ صنفٍ منها عن سائرِ الأصنافِ بالشكلِ واللون وسائرِ الخواصَّ، أو فرقنَ بينَ من يشكرُ الله تعالى وبينَ من يكفرُ به فألقينَ ذكراً أما عُذراً للمعتذرينَ إلى الله تعالى بتوبتهم واستغفارِهم عند مشاهدتِهم أثارَ رحمتِه تعالى في الغيث ويشكرونها، وإما إنذارٌ للذين يكفرونَها وينسبونها إلى الأنواءِ، وإسنادُ إلقاءِ الذكرِ إليهنَّ لكونِهن سبباً في حصوله إذَا شكرت النعمة فيهن أو كفرت أو إقسامٌ بآياتِ القرآن المرسلةِ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فعصفنَ سائرَ الكتبِ بالنسخِ ونشرنَ آثارَ الهُدى من مشارق الأرضِ ومغاربها وفرقنَ بين الحقِّ والباطلِ فألقينَ ذكرَ الحقِّ في أكناف العالمينَ والعُرفُ إمَّا نقيضُ النُّكرِ وانتصابه على العلةِ أي أرسلنَا للإحسانِ والمعروفِ فإنَّ إرسالَ ملائكةِ العذابِ معروفٌ للأنبياءِ عليهم السَّلامُ والمؤمنينَ أو بمَعْنى المتابعةِ من عُرفِ الفرسِ وانتصابه على الحاليَّةِ. والعُذرُ والنُّذرُ مصدرانِ من عَذَرَ إذا مَحَا الإساءةَ ومن أنذَرَ إِذَا خَوَّفَ وانتصابهما على البدليةِ من ذِكراً، أو عَلى العِليِّةِ وقرئا بالتثقيلِ.
{إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} جوابٌ للقسمِ أيْ إنَّ الذي تُوعدونَهُ من مجيءِ القيامةِ كائنٌ لا محالةَ {فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ} مُحيتْ ومُحقتْ أو ذُهبَ بنورِها {وَإِذَا السماء فُرِجَتْ} صُدعتْ وفُتحتْ فكانتْ أبواباً. {وَإِذَا الجبال نُسِفَتْ} جُعلتْ كالحبِّ الذي يُنسفُ بالمنسفِ، ونحوهُ {وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً} وقيل: أُخذتْ منْ مقارِّها بسرعةٍ من انتسفتَ الشيءَ إذا اختطفتَهُ. وقرئ {طُمِّستْ} و{فُرِّجتْ} و{نُسِّفتْ} مشددةً {وَإِذَا الرسل أُقّتَتْ} أي عُيِّنَ لهُم الوقتُ الذي يحضرونَ فيه للشهادةِ على أممهِم وذلكَ عند مجيَّتِه وحضورهِ إذْ لا يتعينُ لهم قيلَه أو بلغُوا الميقاتَ الذي كانُوا ينتظرونَهُ وقرئ {وُقِّتتْ} على الأصلِ وبالتخفيفِ فيهما {لايّ يَوْمٍ أُجّلَتْ} مقدرٌ بقول هُو جوابٌ لإذا في قوله تعالى: {وَإِذَا الرسل أُقّتَتْ} أو حالٌ من مرفوعِ {أقتت} أي يقال لأيِّ يومٍ أُخرت الأمورُ المتعلقةُ بالرسل والمرادُ تعظيمُ ذلكَ اليومِ والتعجيبُ من هولِه. وقوله تعالى: {لِيَوْمِ الفصل} بيانٌ ليومِ التأجيلِ وهو اليومُ الذي يُفصلُ فيهِ بينَ الخلائقِ {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الفصل} مَا مبتدأٌ أدراكَ خبرُهُ أيْ أيُّ شيءٍ جعلَكَ دارياً ما هُو فوضعَ الضميرِ يومَ الفصلِ لزيادةِ تفظيعٍ وتهويلٍ على أنَّ مَا خبرٌ ويومُ الفصلِ مبتدأٌ لاَ بالعكسِ كما اختارَهُ سيبويِه لأنَّ محطَّ الفائدةِ بيانٌ كونِ يومِ الفصلِ أمراً بديعاً هائلاً لا يُقادرُ قَدُرُه ولا يُكتنُه كُنْههُ كَما يفيدُه خبريةُ ما لاَ بيانُ كونِ أمرٍ بديعٍ من الأمورِ يومَ الفصلِ كما يُفيده عكْسُه.
{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ} أيْ في ذلكَ اليومِ الهائلِ. وويلٌ في الأصلِ مصدرٌ منصوبٌ سادٌّ مسدَّ فعلِه لكنْ عُدلَ به إلى الرفعِ للدلالةِ على ثباتِ الهلاكِ ودوامِه للمدعوِّ عليهِ ويومئذٍ ظرفُه أو صفتُه.
{أَلَمْ نُهْلِكِ الأولين} كقومِ نوحٍ وعادٍ وثمودَ لتكذيبهم به. وقرئ {نَهلكَ} بفتحِ النونِ من هلَكَه بمعنى أهلَكَه {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الأخرين} بالرفعِ على {ثمَّ نحنُ نتبعُهم الآخرينَ} من نظرائِهم السالكينَ لمسلكِهم في الكفرِ والتكذيبِ وهُو وعيدٌ لكفارِ مكةَ. وقرئ {ثمَّ سنُتبعُهم}، وقرئ {نُتبعْهُم} بالجزمِ عطفاً على {نُهلك} فيكونُ المرادُ بالآخرينَ المتأخرينَ هلاكاً من المذكورينَ كقومِ لوطٍ وشعيبٍ ومُوسى عليهم السَّلامُ. {كذلك} مثلَ ذلكَ الفعلِ الفظيعِ {نَفْعَلُ بالمجرمين} أي سنَّتُنا جاريةٌ على ذلكَ {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ} أيْ يومُ إذْ أهلكناهُم {لّلْمُكَذّبِينَ} بآياتِ الله تعالى وأنبيائِه وليسَ فيه تكريرٌ لما أنَّ الويلَ الأولَ لعذابِ الآخرةِ وَهَذا لعذابِ الدُّنيا. اهـ.

.تفسير الآيات (20- 34):

قوله تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قرار مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقادرون (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ به تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللهبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر الإهلاك على ذلك الوجه الدال على القدرة التامة على البعث وعلى ما يوعد به بعد البعث، أتبعه الدلالة بابتداء الخلق وهو أدل فقال مقرراً ومنكراً على من يخالف علمه بذلك عمله: {ألم نخلقكم} أي أيها المكذبون بما لنا من العظمة التي لا تعشرها عظمة {من ماء مهين} أي نطفة مذرة ذليلة، وهو من مهن بالفتح، قال في القاموس: والمهين: الحقير الضعيف والقليل {فجعلناه} أي بما لنا من العظمة بالإنزال لذلك الماء في الرحم {في قرار مكين} أي محفوظ مما يفسده من الهواء وغيره ومددنا ذلك لأجل التطوير في أطوار الخلقة والتدوير في أدوار الصنعة {إلى قدر} أي مقدار من الزمان قدره الله تعالى للولادة {معلوم} أي عندنا من تسعة أشهر للولادة إلى ما فوقها أو دونها لا يعلمه غيره.
ولما كان هذا عظيماً ترجمه وبينه معظماً له بقوله: {فقدرنا} أي بعظمتنا على ذلك أو فجعلناه على مقدار معلوم من الأرزاق والآجال والأحوال والأعمال {فنعم القادرون} نحن مطلقاً على ذلك وغيره، أو المقدرون في تلك المقادير لما لنا من كمال العظمة بحيث نجعل ذلك بمباشرة من أردناه منه بطوعه واختياره.
ولعل التعبير بما قد يفيد مع العظمة الجمع لما أقام سبحانه في ذلك من الأسباب بالملائكة وغيرها، وفيه مع ذلك ابتلاء للعباد الموحد منهم والمشرك: {ويل يومئذ} أي إذ كان ذلك {للمكذبين} أي بالناشرات التي نشرت تلك النفوس وكل ما يراد نشره وهم يعلمون قدرتنا على ما ذكر وتقديره من ابتدائنا لخلقهم وغيره مما يفيد كمال القدرة وهم يكذبون بالبعث ولا يقيسونه بمثله.
ولما دل بابتداء الخلق على تمام قدرته، أتبعه الدلالة بانتهاء أمره وأثنائه وما دبر فيهما من المصالح فقال: {ألم نجعل} أي نصير بما سببنا بما لنا من العظمة {الأرض كفاتاً} أي وعاء قابلة لجمع ما يوضع فيها وضمه جمعاً فيه فتك وهدم، وهو اسم لما يكفت من الحديد مثلاً أي يغلف بالفضة ويضم ويجمع، كالضمام والجماع لما يضم ويجمع، أو هو مصدر نعت به أو جمع كافتة، كصائمة وصيام أو جمع كفت وهو الوعاء، ولو شئنا لجعلناها ناشرة لكم إذا وضعتم فيها كما تنشر النبات، وسنجعل ذلك إذا أردنا البعث، ولما كان من المعلوم أنه حذف المفعول وهو لكم، أبدى حالة دالة أيضاً عليه فقال: {أحياء} أي على ظهرها في الدور وغيرها {وأمواتاً} أي في بطنها في القبور وغيرها كما كنتم قبل خلق آدم عليه السلام.
ولما ذكر ما تغيبه من جبال العلم والملك وغيرهما، أتبعه ما تبرزه من الشواهق إعلاماً بأنه لو كان الفعل للطبيعة ما كان الأمر هكذا، فإنه لا يخرج هذه الجبال العظيمة على ما لها من الكبر والرسوخ والثقل والصلابة وغير ذلك من العظمة إلا الفاعل المختار، هذا إلى ما يحفظ في أعاليها من المياه التي تنبت الأشجار وتخرج العيون والأنهار، بل أكثر ما يخرج من المياه هو منها، وكذا غالب المنافع من المعادن وغيرها قال: {وجعلنا} أي بما لنا من العظمة {فيها} أي الأرض {رواسي} لولاها لمادت بأهلها، ومن العجائب أن مراسيها من فوقها خلافاً لمراسي السفن {شامخات} أي هي مع كونها ثوابت في أنفسها مثبتة لغيرها طوال جدًّا عظيمة الارتفاع كأنها قد تكبرت على بقية الأرض وعلى من يريد صعودها، وتنكيره للتعظيم.
ولما كان من العجائب الخارقة للعوائد فوران الماء الذي من طبعه أن يغور لا أن يفور لما له من الثقل واللطافة التي أفادته قوة السريان في الأعماق وفي كون ذلك منه من موضع من الأرض دون آخر، وكونه من الجبال التي هي أصل الأرض ومن صخورها غالباً دلالة ظاهرة على أن الفعل للواحد المختار الجبال القهار لا للطبائع قال: {وأسقيناكم} أي جعلنا لكم بما لنا من العظمة شراباً لسقيكم وسقي ما تريدون سقيه من الأنعام والحرث وغير ذلك {ماء} من لأنهار والغدران والعيون والآبار وغيرها {فراتاً} أي عظيماً عذباً سائغاً وقد كان حقيقاً بأن يكون ملحاً أجاجاً لما للأراضي الممسكة له من ذلك.
ولما كان في هذا دلالة على ظاهرة على قدرته على البعث وغيره قال: {ويل يومئذ} أي يوم إذ تقوم الساعة ليكون الفصل بين العباد فساقها مساق ما هو ثابت لا نزاع فيه إشارة إلى أنه لا يكذب بها بعد ظهور الأدلة إلا من لا مسكة له {للمكذبين} أي الذين هم في غاية الرسوخ في التكذيب حتى كذبوا بما لنا في هذا من الفرق الذي فرقنا به بين أرض وأخرى حتى جعلنا بعضها صالحاً لانفراق أرضه عن الماء، وبعضها غير صالح وجعلنا بعضها قابلاً للجبال وبعضها غير قابل- إلى غير ذلك من الفروق البديعة.
ولما وصلت أدلة الساعة في الظهور إلى حد لا مزيد عليه، وحكم على المكذبين بالويل مرة، وأكد بثلاث، فكان من حق المخاطب أن يؤمن فلم يؤمن، أمر بما يدل على الغضب فقال تعالى معلماً لهم بما يقال لهم يوم القيامة إذ يحل بهم الويل: {انطلقوا} أي أيها المكذبون {إلى ما كنتم} أي بما هو لكم كالجبلة {به تكذبون} عدماً، وتجددون ذلك التكذيب مستمرين عليه.
ولما كان المراد زيادة تبكيتهم وتقريعهم والتهويل عليهم، كرر الأمر واصفاً ما أمروا بالانطلاق إليه فقال: {انطلقوا} هذا على قراءة الجماعة، وقراءة رويس عن يعقوب بصيغة الماضي للدلالة على تمام انقيادهم هناك، وأنه لا شيء من منعه عندهم أصلاً، وهي استئنافية لجواب من يقول: ما كان حالهم عند هذا الأمر الفظيع؟ {إلى ظل} أي من دخان جهنم الذي سمي باليحموم لما ذكر في الواقعة {ذي ثلاث شعب} ينشعب من عظمه كما ترى الدخان العظيم يتفرق ذوائب، وخصوصية الثلاث لأن التكذيب بالله وكتبه ورسله، فتعذبهم كل واحدة منها عذاباً يعلمون هناك لأي تكذيبة منها هي، أو لأن الحاجب عن أنوار القدس الحس والخيال والوهم، أو لأن السبب فيه القوة الوهمية الحالة في الدماغ، والغضبية التي في عين القلب، والشهوية التي في يساره، وقيل: تخرج عنق من النار تكون ثلاث فرق: نار ونور ودخان، يقف النور على المؤمنين، واللهب الصافي على الكافرين، والدخان على المنافقين، تكون كذلك إلى حين الفراغ من الحساب، وقال الرازي: الشعب لهب وشرر ودخان.
ولما كان المبتادر من الظل ما يستروح إليه فظنوا ذلك، أزال عنهم هذا التوهم على طريق التهكم بهم ليكون أشد في النكال فقال واصفاً ل {ذي}: {لا ظليل} أي من الحر بوجه من الوجوه.
ولما كان ما انتفى عنه غزارة الظل التي أفهمتها صيغة المبالغة قد يكون فيه نفع ما قال: {ولا يغني} أي شيئاً من إغناء {من اللهب} أي هذا الجنس.
ولما بين أن هذا الظل في العذاب، وكان من المعلوم أنه لا يكون دخان إلا من نار، قال مبيناً أنه لو كان هناك ظل ما أغنى: {إنها} أي النار التي دل عليها السياق {ترمي} أي من شدة الاستعار {بشرر} وهو ما تطاير من النار إذا التهبت، واحدتها شرارة وهي صواعق تلك الدار {كالقصر} أي كل شرارة منها كأنها قصر مشيد من عظمها وقيل: هو الغليظ من الشجر، الواحدة قصر مثل جمر وجمرة، وهي اسم جنس جمعي لم يستعمل إلا في جمع فهو شامل لكثير الجموع وقليلها، وكذا كل ما فرق بين واحدة وجمعه التاء وليس بجمع لأنه ليس بجمع سلامة وهو ظاهر ولا تكسير لأن أوزانه معروفة وليس منها فعل وليس بجنس، فإنه لا يشمل ما دون الجمع ومن عظمة شرارها تعرف عظمة جمرها.
ولما شبهه في عظمه، شبهه في لونه فقال: {كأنه جمالات} جمع جمالة جمع جمل مثل حجارة وحجر للدلالة مع كبره على كثرته وتتابعه واختلاطه وسرعة حركته، ومن قرأ بضم الجيم فهو عنده جمع جمالة وهي الحبل الغليظ من حبال السفينة- شبهه به في امتداده والتفافه، ولا تنافي فإن الشرر منه ما هو هكذا ومنه ما هو كما تقدم {صفر} جمع أصفر للون المعروف، وقيل: المراد به سواد يضرب إلى صفرة كما هي ألوان الجمال.
ولما كان هذا أمراً هائلاً كانت ترجمته: {ويل يومئذ} أي إذ يكون ذلك {للمكذبين} أي العريقين في التكذيب بإلقاء الذكر على الأنبياء للبشارة والنذارة. اهـ.